القدس: كتابة على سيف أيوبي...أ.د. خالد الكركي
صفحة 1 من اصل 1
القدس: كتابة على سيف أيوبي...أ.د. خالد الكركي
د. خالد الكركي
القدس وما أحسبها إلا درب الأمة نحو الشهادة والوجود، سلام على روحها العربية، وسلام على أهلها المسلمين والنصارى من أبناء الأمة الصامدين الصابرين، سلام لمساجدها وكنائسها، وسلام لأقصاها وقيامتها ومدارسها وأضرحة أهلها وشهدائها، وسلام على الحق الذي يؤخذ بالصبر والسيف كما "تؤخذ الدنيا غلابا".
القدس..
في الرؤية والتاريخ والفتح لنا، والقدس مدرسة تضحية وفداء، وثقافة حياة تشكلت تفاصيلها من أول الزمان، تمازج حضارات لا يعرف منها البقاء إلا من يمّم وجهته صوب الحق وانحنى له احتراما وإيمانا.
نقول هذا ولا نقف عند ما يقوله المنبوذون المحتلون، من يحسون وطأة التضارب بين حدة مخالب الصواريخ ونبل صوت حجارة الشهادة والبطولة المخضّبة بحنين الأرواح وأهداب الغيب عقيدةً مثلى، تهتز له وبه قطرات المحيط والخليج، وتنسج هوية الفداء من أكثر تقاليد الحياة عفويةً إلى صور أعظم من جسَّ وجع الطرقات والجدران والحياة.
فليكن الكلام كله لها، ولتزدهي بما تلبس من أثوابها التي تحب وتشتهي، وأول ما تلبس واحد من ثوبي أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذ حين حضرته الوفاة طلب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها الآتي:
"يا عائشة، لي ثوبان، اغسلوني وكفنوني فيهما، فإنّ الحي أولى بالجديد من الميت" والقدس أولى بمن اختار منجاة الخلود على ترابها، والتغني بأخبارها ونوادرها القديمة والجديدة التي طُرّزت من لمسات جسد الصديق حتى آخر قطرة من دمٍ أو أمل في روح هذه الأمة.
ولأن الحي أولى بالجديد من الميت، فقد اختارت القدس ثوباً خيوطه من صوت بلال بن رباح الذي قطع المسافة من دمشق إلى القدس كي يشارك في القتال، ويشهد ساعة الفتح العابقة بالسماحة والكبرياء. وحين أتت صلاة الظهر قال الناس: يا أمير المؤمنين اسأل بلالاً أن يؤذن لنا، فدعا به عمر وقال: يا بلال إن أصحاب رسول الله صلى الله علية وسلم يسألونك أن تؤذن لهم.. فقال بلال: نعم.
"فلما قال: الله أكبر الله أكبر، خشعت جوارحهم، واقشعرت جنوبهم، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم تتصدع عند ذكر الله وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكاد بلال أن يقطع الأذان مما لقى الناس من الخشوع والبكاء، لكنه كتب خيار الأمة في البقاء، وأتم النداء.
لتتوشح القدس بالمحبة التي تسكن الناس الطيبين، وهم على عهدهم في انتظار تحريرها، والشوق الذي يغلبهم مثل ذاك الذي حملته نفس النبي العظيم عليه صلوات الله يوم نعي إليه قادة مؤتة، وأشفق الصحابة عليه من الحزن على زيد فقال: "هذا شوق الحبيب إلى الحبيب".
ولتلبس القدس قطعة من ثوب حمزة بن عبدالمطلب الذي علّم الدنيا أن للوقوف في جفن الرّدى معنى لا يدركه إلا الشهداء، والذي أشرع الأبواب لتشكل روح الجهاد في نفوس القادة غضباً في سبيل الّله ودفاعاً عن الرسالة والحق للناس أجمعين.
ولتلبس القدس قطعة من اللواء الذي احتضنه جعفر في مؤتة، عضدان نازفان، ولواءٌ تسقط الدنيا كلّها ولا يسقط، وفتى يعقر فرسه وينزل الأرض ويتلقى نيفاً وثمانين بين ضربة وطعنة ولا يسقط اللواء.
ولتسند القدس رأسها إلى كفّ الطفيل بن عمرو الدوسي التي خلفها في أرض المعركة ضد المرتدين ثم ما لبث أن استشهد ابنه عمرو في اليرموك، ولقي وجه ربّه شهيدا كي يرفل الإسلام بأثواب النصر العظيم.
ولنقرأ في حضرة القدس أن عبدالله بن أم مكتوم كان حاضراً يوم القادسية وعليه درعٌ سابغة يجرّها في ميدان الجهاد، (كان عبدالله هذا أعمى) وحمل اللواء في القادسية واستشهد فيها، فاجعلوا للقدس قطعة أخرى من ذلك اللواء؛ وصلوا بينه وبين قطعة من اللواء الذي حمله النعمان بن مقرن في نهاوند، وحين انزلقت فرسه في الدم في ثالث أيام المعركة وكبر ثلاثاً فصعد شهيداً وهو يتلقى نشابة من العدو في خاصرته، لكن أخاه نعيماً كتم الخبر وسجاه ثم أخذ الراية قبل أن تقع وناولها حذيفة بن اليمان وقال المغيرة يومها: اكتموا مصاب أميركم ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس.. وفر الفرس وفر الخيزران، ولما أتم الله للمسلمين أمرهم سألوا عن أميرهم النعمان فقال أخوه معقل هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة، وكذا انكشف الصباح عن نصر لأمتنا عظيم، وحدثوهم عن الفاروق إذ يصعد المنبر وقد نعي إليه النعمان.. سيخرج إلى الناس ثم يضع يده على رأسه ويبكي الفارس العزيز.
القدس..
وما أظنها إلا طريقنا إلى الشهادة.. سنظل عند اسمها مرابطين، فهي سيرة فتوح وشهداء ونجيع مقدّس، وسوف ننتظر عروة بن زيد الخيل الطائي الذي حمل إلى الفاروق خبر انكسار الجيش في معركة الجسر، وظل حزيناً لأنه حمل رسالة المثنى هذه، وبعد سنوات ست حمل هو نفسه اللواء نحو الرّي فانتصر، وخلّف أخاه على الجيش مستأذناً أن يكون هو الرسول الذي يبشر الخليفة بالنصر كي يمحو الأسى الذي ما انفك يراوده من زمان معركة الجسر، فسمّاه الفاروق بـ"البشير".
سننتظر خبراً من القدس يشبه ذاك الذي في رسائل كتّاب صلاح الدين إلى الدنيا يوم تحريرها، وما ذلك على الله بعزيز!!
إنّها الأثواب التي تليق أن نروي سيرتها في حضرة القدس عاصمة الأمة الأبدية في الثقافة والفكر والتاريخ والرسالة والإسراء والمعراج والقيامة.. وليكن بينها ثوب القارئ سعيد عبيد الذي خطب في القادة الذي فتحوا المدائن:
"إنّا ملاقو العدو غداً، وإنّا مستشهدون، فلا يغلسن عنا دمٌ ولا نكفّن إلاّ في ثوب كان علينا".
أيّها الناس:
نادوا على محمد الفاتح وهو يقتحم أسوار القسطنطينية ثم يذهب إلى ضريح أبي أيوب الأنصاري الذي لقي وجه ربه في حصار الجيش الأموي لها، وانتظر ثمانية قرون حتى سقطت أمام الجيش الإسلامي، وهناك تقلد محمد الفاتح سيفه من يد شيخه شمس الدين بن حمزة العالم المولود في دمشق.. وقبل ذلك فعل اللاحقون من سلاطين بني عثمان، إنها سير الشيوخ والقادة، عندما يكون المعلم من بعد صفوف الجند.. ويستقبل الشهداء..
فهل كثير على القدس أن تظلّ أوّل النهار ومنتهاه في روح الأمة حتى تفيء إلى ظل أهلها من جديد..!
أثواب وراء أثواب منها ثوب ألب أرسلان بطل "ملاذكرد" الذي لبس البياض وتحنط وقال: إن قتلت ُفهذا كفني!! ومنها ثوب الأمير عزالدين عيسى بن مالك في غمرة فتح القدس، وبعدها أثواب الذين ظلّوا في معركة عكا التالية على فتح القدس خمسين يوماً تحت السلاح وفوق الخيل.. الخيل الذي ضجرت من عركِ اللُّجم.. عكا التي تبايع أهلها على الموت، وظلت بعد ذلك مائة عام تحت الاحتلال حتى يسر الله من المماليك من رد غربتها وطهر أرض فلسطين، عكا التي حفظت وجه الأمة أمام إمبراطور الفرنج نابليون وردته خائباً عن الشرق.
ها نحن بين يدي القدس نعرض ما في ثقافتها من تضحيات ولا نخشى غبطة ولا حسداً، "وكل مستظهر مغبوط" نعرف ذاكرتها وتعرفنا عيناً، كلما عثرنا تشبث بنا نداء الحق يستبق العاذلات، ويقذف زبد الغضب ملحاً أجاجاً في وجه عري الغاصب من الذكريات على قدسنا.
حقاً طرفان متناقضان كل التناقض، فليس الصدئ كالمجلو ولا المشرق كالمغرب ولا الطالع كالغارب، فما أعدله من ميزان، وما أوضحه من مثال، وما أصدقه من قياس! ويبقى في عيوننا دائماً أبداً أن الاعتبار حقٌ كما أن التقصير وبال.
القدس، نوغل في جُرحها، ونوغل في اللغة،
ونوغل في هجاء الخائفين والمُفرطين والصامتين
ونوغل في النداء
أن أعيدوا القدس حتى تعود لنا وجوهنا، فنحن من دونها بلا ملامح ولا نعرف من نكون!!
القدس..
زيّنوها - إن شئتم - بقطعة من كفن صلاح الدين، وقد قيل إنّ والدته قالت عند رحيله:
"سأضع سيفك في كفنك
وسيعرفك الله، فأنت سيفه"
وأشهروا سيفه هذا في وجه النازية الصهيونية، آخر معاقل الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في هذا العالم الذي يدعي العدل وهو غارق في وحل الطغيان والنفاق..
ألبسوها من كفن صلاح الدين، واسمعوا ما كتبه من حضروا وفاته ودفنه في دمشق:
"ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه، فما مكنّا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبّة واحدة إلا بالقرض، حتى في ثمن التبن الذي يُلتُّ به الطيّن. وغسله الدّولعي الفقيه وأخرج -رحمه الله- عليه في تابوت مسجّى بثوب فوط، وكان ذلك وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجهِ حِلٍّ عرفه".
القدس..
ضموا بين أثوابها من أكفان الحسين بن علي، وعز الدين القسّام، ومحمد الحنيطي، وعبدالقادر الحسيني، واجعلوا لها وسادة من دم شهدائنا في باب الواد واللطرون، والكرامة، وانثروا على دروبها شقائق النعمان، واجعلوا لها وسادة ثانية من العُترة التي جمع فيها المنصور بن أبي عامر فيه ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده، وصيّرها في حنوطه وبين أكفانه، بعد ست وعشرين سنة في الحكم خاض خلالها اثنتين وخمسين معركة.
القدس..
دينها في أعناقنا كبير، وسؤال سيبقى شاخصاً في وجه الدنيا.. ودمها الموعود في أعناقنا غزير، وقد زينَّا أرواحنا باسمها، وزينَّا أسوارها بالشهداء، وحملنا إليها النجيع بصورته الأولى، فلها منا السلام فوق ما يحمل السلام من معاني الحرية والتحرير وطرد الغزاة، المعاني نفسها التي حملها يوسف العظمة، وسعيد العاص، وعمر المختار وفرحان السعدي، وسليمان الجوسقي، ويحيى عياش ورفاقه الكرام، وسائر شهداء فلسطين والأمة من أجلها الى يوم التحرير القريب الذي يطرد فيه المحتلون الغزاة كما طرد الصليبيون وأكلتهم هوام الأرض والغربان.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
القدس وما أحسبها إلا درب الأمة نحو الشهادة والوجود، سلام على روحها العربية، وسلام على أهلها المسلمين والنصارى من أبناء الأمة الصامدين الصابرين، سلام لمساجدها وكنائسها، وسلام لأقصاها وقيامتها ومدارسها وأضرحة أهلها وشهدائها، وسلام على الحق الذي يؤخذ بالصبر والسيف كما "تؤخذ الدنيا غلابا".
القدس..
في الرؤية والتاريخ والفتح لنا، والقدس مدرسة تضحية وفداء، وثقافة حياة تشكلت تفاصيلها من أول الزمان، تمازج حضارات لا يعرف منها البقاء إلا من يمّم وجهته صوب الحق وانحنى له احتراما وإيمانا.
نقول هذا ولا نقف عند ما يقوله المنبوذون المحتلون، من يحسون وطأة التضارب بين حدة مخالب الصواريخ ونبل صوت حجارة الشهادة والبطولة المخضّبة بحنين الأرواح وأهداب الغيب عقيدةً مثلى، تهتز له وبه قطرات المحيط والخليج، وتنسج هوية الفداء من أكثر تقاليد الحياة عفويةً إلى صور أعظم من جسَّ وجع الطرقات والجدران والحياة.
فليكن الكلام كله لها، ولتزدهي بما تلبس من أثوابها التي تحب وتشتهي، وأول ما تلبس واحد من ثوبي أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذ حين حضرته الوفاة طلب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها الآتي:
"يا عائشة، لي ثوبان، اغسلوني وكفنوني فيهما، فإنّ الحي أولى بالجديد من الميت" والقدس أولى بمن اختار منجاة الخلود على ترابها، والتغني بأخبارها ونوادرها القديمة والجديدة التي طُرّزت من لمسات جسد الصديق حتى آخر قطرة من دمٍ أو أمل في روح هذه الأمة.
ولأن الحي أولى بالجديد من الميت، فقد اختارت القدس ثوباً خيوطه من صوت بلال بن رباح الذي قطع المسافة من دمشق إلى القدس كي يشارك في القتال، ويشهد ساعة الفتح العابقة بالسماحة والكبرياء. وحين أتت صلاة الظهر قال الناس: يا أمير المؤمنين اسأل بلالاً أن يؤذن لنا، فدعا به عمر وقال: يا بلال إن أصحاب رسول الله صلى الله علية وسلم يسألونك أن تؤذن لهم.. فقال بلال: نعم.
"فلما قال: الله أكبر الله أكبر، خشعت جوارحهم، واقشعرت جنوبهم، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم تتصدع عند ذكر الله وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكاد بلال أن يقطع الأذان مما لقى الناس من الخشوع والبكاء، لكنه كتب خيار الأمة في البقاء، وأتم النداء.
لتتوشح القدس بالمحبة التي تسكن الناس الطيبين، وهم على عهدهم في انتظار تحريرها، والشوق الذي يغلبهم مثل ذاك الذي حملته نفس النبي العظيم عليه صلوات الله يوم نعي إليه قادة مؤتة، وأشفق الصحابة عليه من الحزن على زيد فقال: "هذا شوق الحبيب إلى الحبيب".
ولتلبس القدس قطعة من ثوب حمزة بن عبدالمطلب الذي علّم الدنيا أن للوقوف في جفن الرّدى معنى لا يدركه إلا الشهداء، والذي أشرع الأبواب لتشكل روح الجهاد في نفوس القادة غضباً في سبيل الّله ودفاعاً عن الرسالة والحق للناس أجمعين.
ولتلبس القدس قطعة من اللواء الذي احتضنه جعفر في مؤتة، عضدان نازفان، ولواءٌ تسقط الدنيا كلّها ولا يسقط، وفتى يعقر فرسه وينزل الأرض ويتلقى نيفاً وثمانين بين ضربة وطعنة ولا يسقط اللواء.
ولتسند القدس رأسها إلى كفّ الطفيل بن عمرو الدوسي التي خلفها في أرض المعركة ضد المرتدين ثم ما لبث أن استشهد ابنه عمرو في اليرموك، ولقي وجه ربّه شهيدا كي يرفل الإسلام بأثواب النصر العظيم.
ولنقرأ في حضرة القدس أن عبدالله بن أم مكتوم كان حاضراً يوم القادسية وعليه درعٌ سابغة يجرّها في ميدان الجهاد، (كان عبدالله هذا أعمى) وحمل اللواء في القادسية واستشهد فيها، فاجعلوا للقدس قطعة أخرى من ذلك اللواء؛ وصلوا بينه وبين قطعة من اللواء الذي حمله النعمان بن مقرن في نهاوند، وحين انزلقت فرسه في الدم في ثالث أيام المعركة وكبر ثلاثاً فصعد شهيداً وهو يتلقى نشابة من العدو في خاصرته، لكن أخاه نعيماً كتم الخبر وسجاه ثم أخذ الراية قبل أن تقع وناولها حذيفة بن اليمان وقال المغيرة يومها: اكتموا مصاب أميركم ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس.. وفر الفرس وفر الخيزران، ولما أتم الله للمسلمين أمرهم سألوا عن أميرهم النعمان فقال أخوه معقل هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة، وكذا انكشف الصباح عن نصر لأمتنا عظيم، وحدثوهم عن الفاروق إذ يصعد المنبر وقد نعي إليه النعمان.. سيخرج إلى الناس ثم يضع يده على رأسه ويبكي الفارس العزيز.
القدس..
وما أظنها إلا طريقنا إلى الشهادة.. سنظل عند اسمها مرابطين، فهي سيرة فتوح وشهداء ونجيع مقدّس، وسوف ننتظر عروة بن زيد الخيل الطائي الذي حمل إلى الفاروق خبر انكسار الجيش في معركة الجسر، وظل حزيناً لأنه حمل رسالة المثنى هذه، وبعد سنوات ست حمل هو نفسه اللواء نحو الرّي فانتصر، وخلّف أخاه على الجيش مستأذناً أن يكون هو الرسول الذي يبشر الخليفة بالنصر كي يمحو الأسى الذي ما انفك يراوده من زمان معركة الجسر، فسمّاه الفاروق بـ"البشير".
سننتظر خبراً من القدس يشبه ذاك الذي في رسائل كتّاب صلاح الدين إلى الدنيا يوم تحريرها، وما ذلك على الله بعزيز!!
إنّها الأثواب التي تليق أن نروي سيرتها في حضرة القدس عاصمة الأمة الأبدية في الثقافة والفكر والتاريخ والرسالة والإسراء والمعراج والقيامة.. وليكن بينها ثوب القارئ سعيد عبيد الذي خطب في القادة الذي فتحوا المدائن:
"إنّا ملاقو العدو غداً، وإنّا مستشهدون، فلا يغلسن عنا دمٌ ولا نكفّن إلاّ في ثوب كان علينا".
أيّها الناس:
نادوا على محمد الفاتح وهو يقتحم أسوار القسطنطينية ثم يذهب إلى ضريح أبي أيوب الأنصاري الذي لقي وجه ربه في حصار الجيش الأموي لها، وانتظر ثمانية قرون حتى سقطت أمام الجيش الإسلامي، وهناك تقلد محمد الفاتح سيفه من يد شيخه شمس الدين بن حمزة العالم المولود في دمشق.. وقبل ذلك فعل اللاحقون من سلاطين بني عثمان، إنها سير الشيوخ والقادة، عندما يكون المعلم من بعد صفوف الجند.. ويستقبل الشهداء..
فهل كثير على القدس أن تظلّ أوّل النهار ومنتهاه في روح الأمة حتى تفيء إلى ظل أهلها من جديد..!
أثواب وراء أثواب منها ثوب ألب أرسلان بطل "ملاذكرد" الذي لبس البياض وتحنط وقال: إن قتلت ُفهذا كفني!! ومنها ثوب الأمير عزالدين عيسى بن مالك في غمرة فتح القدس، وبعدها أثواب الذين ظلّوا في معركة عكا التالية على فتح القدس خمسين يوماً تحت السلاح وفوق الخيل.. الخيل الذي ضجرت من عركِ اللُّجم.. عكا التي تبايع أهلها على الموت، وظلت بعد ذلك مائة عام تحت الاحتلال حتى يسر الله من المماليك من رد غربتها وطهر أرض فلسطين، عكا التي حفظت وجه الأمة أمام إمبراطور الفرنج نابليون وردته خائباً عن الشرق.
ها نحن بين يدي القدس نعرض ما في ثقافتها من تضحيات ولا نخشى غبطة ولا حسداً، "وكل مستظهر مغبوط" نعرف ذاكرتها وتعرفنا عيناً، كلما عثرنا تشبث بنا نداء الحق يستبق العاذلات، ويقذف زبد الغضب ملحاً أجاجاً في وجه عري الغاصب من الذكريات على قدسنا.
حقاً طرفان متناقضان كل التناقض، فليس الصدئ كالمجلو ولا المشرق كالمغرب ولا الطالع كالغارب، فما أعدله من ميزان، وما أوضحه من مثال، وما أصدقه من قياس! ويبقى في عيوننا دائماً أبداً أن الاعتبار حقٌ كما أن التقصير وبال.
القدس، نوغل في جُرحها، ونوغل في اللغة،
ونوغل في هجاء الخائفين والمُفرطين والصامتين
ونوغل في النداء
أن أعيدوا القدس حتى تعود لنا وجوهنا، فنحن من دونها بلا ملامح ولا نعرف من نكون!!
القدس..
زيّنوها - إن شئتم - بقطعة من كفن صلاح الدين، وقد قيل إنّ والدته قالت عند رحيله:
"سأضع سيفك في كفنك
وسيعرفك الله، فأنت سيفه"
وأشهروا سيفه هذا في وجه النازية الصهيونية، آخر معاقل الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في هذا العالم الذي يدعي العدل وهو غارق في وحل الطغيان والنفاق..
ألبسوها من كفن صلاح الدين، واسمعوا ما كتبه من حضروا وفاته ودفنه في دمشق:
"ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه، فما مكنّا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبّة واحدة إلا بالقرض، حتى في ثمن التبن الذي يُلتُّ به الطيّن. وغسله الدّولعي الفقيه وأخرج -رحمه الله- عليه في تابوت مسجّى بثوب فوط، وكان ذلك وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجهِ حِلٍّ عرفه".
القدس..
ضموا بين أثوابها من أكفان الحسين بن علي، وعز الدين القسّام، ومحمد الحنيطي، وعبدالقادر الحسيني، واجعلوا لها وسادة من دم شهدائنا في باب الواد واللطرون، والكرامة، وانثروا على دروبها شقائق النعمان، واجعلوا لها وسادة ثانية من العُترة التي جمع فيها المنصور بن أبي عامر فيه ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده، وصيّرها في حنوطه وبين أكفانه، بعد ست وعشرين سنة في الحكم خاض خلالها اثنتين وخمسين معركة.
القدس..
دينها في أعناقنا كبير، وسؤال سيبقى شاخصاً في وجه الدنيا.. ودمها الموعود في أعناقنا غزير، وقد زينَّا أرواحنا باسمها، وزينَّا أسوارها بالشهداء، وحملنا إليها النجيع بصورته الأولى، فلها منا السلام فوق ما يحمل السلام من معاني الحرية والتحرير وطرد الغزاة، المعاني نفسها التي حملها يوسف العظمة، وسعيد العاص، وعمر المختار وفرحان السعدي، وسليمان الجوسقي، ويحيى عياش ورفاقه الكرام، وسائر شهداء فلسطين والأمة من أجلها الى يوم التحرير القريب الذي يطرد فيه المحتلون الغزاة كما طرد الصليبيون وأكلتهم هوام الأرض والغربان.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
عمر مصطفى الطراونة- عدد المساهمات : 63
تاريخ التسجيل : 16/05/2010
مواضيع مماثلة
» وصايا الدكتور خالد الكركي ....تخريج الجامعة الاردنية 2010
» القدس فى القران
» القدس ....صور قديمة
» القدس الشريف
» سلام على الإخوان في حضرة القدس
» القدس فى القران
» القدس ....صور قديمة
» القدس الشريف
» سلام على الإخوان في حضرة القدس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى